صراخ المستضعفين: أعيدوا لنا صندوق المقاصة!
قصة صندوق المقاصة اخترت أن أرويها من زاوية منحازة للمستضعفين، تاركا لمن يريد أن يكرر روايتها من زاوية الانحياز للحكومة (كل الحكومات) حرية ذلك. فماذا سيقول المستضعفون؟
في البدء كان نظام المقاصة مند الأربعينات من القرن الماضي قد اعتُمِد (من أجل ضمان تموين الأسواق بالمواد الأساسية وحماية القدرة الشرائية للمواطنين عبر التحكم في مستويات الأسعار وفي عمليات الاستيراد والتصدير)، أي أنه يلعب بالنسبة للمواطنين عموما، وللفئات الهشة والفقيرة بشكل خاص، دور “الواقي” “البارشوك” تجاه أي ارتفاع للأسعار.
وجاءت عاصفة ارتفاع أسعار النفط عالميا خلال الفترة 2006-2008، وبذل ارتفاع أسعار مواد الاستهلاك التي يدعمها الصندوق بشكل حارق وترتفع بذلك نفقات الأسر ومصاريف جيوب المواطنين، تصدى لها الصندوق، وارتفعت نفقاته، وارتفعت معها الاعتمادات العمومية الموجهة له.
نعم ارتفعت الاعتمادات العمومية الموجهة للصندوق، حيث (انتقلت نفقات المقاصة من 3.9 مليار درهم برسم سنة 2002، موجهة كليا لدعم المواد الغذائية، إلى56.4 مليار درهم برسم سنة 2012 منها 48.4 مليار درهم لتغطية تكلفة دعم المواد النفطية (أي 86% تقريبا)، وهو ما ترتب عنه تفاقم العجز المالي بالنسبة للناتج الداخلي الخام حيث انتقل من 2,2 %خلال سنة 2009 إلى 7 %سنة 2012، مما يؤكد جليا أثر هذه النفقات على التوازنات الماكرواقتصادية للبلاد).
نعم تأثرت “التوازنات الماكرواقتصادية” بشكل قاس، لكن الصندوق تحمل عن المواطنين وأسرهم تكاليف تضاعفت بأزيد من 14 مرة خلال 10 سنوات، ولا شك أن ذلك شكل لهم حماية مهمة، وساهم ذلك في استقرار أسرهم وأوضاعهم الاجتماعية، وحافظ على قدرتهم الشرائية بشكل قوي على اعتبار أن المحروقات هي التي تتحكم بشكل كبير في الأسعار، ومن تم ساهم في السلم الاجتماعي.
مقابل نوع من الارتياح بالنسبة للطبقات الاجتماعية، كانت الحكومة تعاني ماليا. كانت الخيارات متعددة أمامها، منها خيار إعلان الحرب على الفساد الذي ينهب المال العام ويعرقل التنمية، ويحد من الاستثمارات، وخيار الاقتراض من الخارج، وخيار التقشف في الإدارات العمومية، إلى غير ذلك من الخيارات، وبالطبع يوجد من بين الخيارات خيار تخفيف أعباء صندوق المقاصة، أي التخلي التدريجي عن دعمه للأسعار، وترك تحمل نيرانها للمواطنين.
هذا الخيار الأخير، “الحيط القصير”، هو الذي سارت فيه الحكومة وأسمته “الإصلاح”، وشُرع في الحديث عن إصلاح نظام المقاصة مند حكومة عباس الفاسي وتَقَوَّى مع حكومة ابن كيران التي باشرته بعد أن قدمت وعودا بإيجاد بدائل للصندوق تحمي الفئات الفقيرة، والمتمثلة في الدعم المباشر، وكان رئيس الحكومة قد أعلن ذلك عبر القناة الثانية، وكان الأولى أن يستقيل لما لم يف بوعده الذي يقول “إنهم” لم يتركوه ينفده!
كان شعار “إصلاح نظام المقاصة” شعارا مضللا من الناحية السيكولوجية، فهو يوحي بوجود فساد في النظام سيتم إصلاحه، والواقع أن العنوان الأنسب له هو “تقويض حماية المواطنين تجاه غلاء الأسعار”، ذلك أن رفع الدعم عن المحروقات دون إجراءات مصاحبة تحمي الفئات الهشة والفقيرة هو الفساد بعينه.
لقد تم تسليط الضوء في إيدلوجية “إصلاح المقاصة” على ما تستفيذه منه الشركات الكبرى، ولما رفع الدعم عن المحروقات ضلت تلك الشركات تستفيد من بدائل أخرى يوفرها شبه الفراغ الذي تركه مجلس المنافسة، ليبق الفقراء والمهمشون وحدهم من تضرر من إشعال نيران الأسعار. وكأن ثمن رفع الدعم عن المحروقات كان هو تجميد مجلس المنافسة وإضعافه.
لكن كيف تم تمرير المراحل الأولى والخطيرة من مسمى “الإصلاح” دون ضجة؟
تزامن وضع “نظام المقاصة” على طاولة الحكومة مع إضعاف كل آليات حماية المجتمع من تعسف السياسيين وتطرفهم، وتم إضعاف الإعلام، وإضعاف المجتمع المدني، وخاصة الحقوقي منه، وتم إضعاف النقابات، أما الأحزاب فقد تناوبت على اغتصاب القدرة الشرائية للموطنين، فالتي كانت تقود الحكومة التي جاءت بفكرة “إصلاح المقاصة” هي التي تزعمت المعارضة حين تم الشروع في تنفيذ ذلك “الإصلاح”، وهي التي تحاول اليوم مواساة جراح المستضعفين جراء حرائق الأسعار بالكلام والتسويف. والأحزاب، جميع الأحزاب، على كل حال أحزاب ضعيفة ليست لها الاستقلالية والشجاعة الكافيتين للانحياز للمواطنين.
كانت بداية تخريب حماية المواطنين من لهيب الأسعار من رفع دعم المحروقات، وكما هو معلوم فالمحروقات هي مايسترو الأسعار. وتمت مباشرة العملية من خلال خطاب تضليلي، من وجهة نظر شعبية، بالحديث عن “الإصلاح التدريجي لنظام المقاصة”.
ويمكن تقديم خلاصة موجزة لهذا التدرج في إزالة “البارشوك” بين جيوب المواطنين والأسعار كالتالي:
حسب وزارة الاقتصاد والمالية، (تهدف المرحلة الأولى من الإصلاح إلى التحكم في تكلفة المقاصة عن طريق حصر الغلاف الإجمالي في الاعتمادات المرصودة في قانون المالية، وذلك من أجل التحكم في تكلفة مصاريف الدعم وخلق موارد مالية تستعمل في تحسين نظام الحماية الاجتماعية.
وفي المرحلة الثانية، سيتم توجيه القطاعات المدعمة نحو التحرير مع تشجيع المنافسة الحرة والنزيهة بين الشركات العاملة في القطاعات المدعمة وكذا حماية الفئات المتضررة من هذا التحرير).
ويلاحظ أنه في كل مرحلة هناك بعد اجتماعي يقدم لتبرير تلك المرحلة، لكن في العموم إما إنه يتم بشكل ضعيف كما هو الشأن بـ”تحسين نظام الحماية الاجتماعية” (دعم الأرامل)، أو لم يتم منه شيء كما هو الحال بالنسبة لدعم الفئات المتضررة من التحرير (غياب الدعم المباشر).
وتمت مباشرة “الإصلاح” حسب نفس المصدر، (من خلال اعتماد نظام مقايسة أسعار المواد النفطية السائلة الذي تم تدبيره على مرحلتين. حيث تم الشروع في تطبيق المقايسة الجزئية ابتداء من 16 شتنبر 2013 إلى 31 دجنبر 2013 من خلال اخضاع البنزين الممتاز والغازوال والفيول وايل الموجه للصناعة إلى المقايسة الجزئية مع تحديد سقف الدعم الموجه لهذه المواد في حدود الاعتمادات المرصودة في قانون المالية لسنة 2013.
أما المرحلة الثانية والتي تعتبر مكملة للمرحلة الأولى فقد دخلت حيز التنفيذ ابتداء من شهر فبراير 2014 باعتماد نظام مقايسة كلي بحذف الدعم المطبق على كل من البنزين الممتاز والفيول وبالتقليص التدريجي للدعم الموجه للغازوال مع حذفه مع نهاية سنة 2014. كما قامت الحكومة برفع الدعم نهائيا عن أثمنة الفيول الموجه لإنتاج الكهرباء.
ومن أجل التخفيف من تداعيات هذا النظام تمت مصاحبته بإجراء أساسي يتمثل في تخصيص تعويض النقل الحضري خاصة سيارات الأجرة عن الزيادات في أسعار الغازوال.
مع بداية 2015 تم رفع الدعم نهائيا عن كل المحروقات السائلة (الغازوال والبنزين) وكل أنواع الفيول، وتم اخضاع أثمنة هذه المواد للمصادقة كل فاتح و16 من الشهر وذلك استنادا لإتفاق المصادقة على أسعار المواد النفطية بين الحكومة والقطاع النفطي الذي تم التوقيع عليه يوم 26 دجنبر 2014 والذي يشتمل على مجموعة من الإلتزامات التي ترمي إلى تهييئ قطاع المواد النفطية إلى التحرير الذي سيتم الشروع فيه ابتداء من فاتح دجنبر 2015.
تلك كانت قصة تحرير أسعار المحروقات من عقالها، لشن هجوماتها بدون قيود على القدرة الشرائية للمواطنين.
نعم إن الحكومة مستمرة إلى حدود الساعة في الدعم الكلي لأثمنة غاز بوتان والسكر والدقيق الوطني من القمح اللين. لكن هذه المواد المدعمة لا تعني شيئا أمام اللهيب المستعر في أسعار جميع المنتجات.
والمواد المتبقية ليست في الواقع ذات أهمية حقيقية أمام ما يمثله دعم المحروقات، لكنها بقيت وكأن الحكومة أبقت شيئا خطيرا جدا، ومع ذلك فهي تَمُن على المواطنين في كل لحظة أنها تدعم البوطا والدقيق والسكر!
ومن المضحكات المبكيات أن يقول مسؤول، سواء في الحكومتين السابقتين أو الحكومة الحالية، إن البوطا ستباع بـ 120 درهما إذا أزيل عنها الدعم، لإبراز دور صندوق المقاصة في حماية القدرة الشرائية للمواطنين، لكن لم يقل أحد مثل هذا الكلام بالنسبة للمحروقات!
لكن كم من قنينة بوطان تستهلك الأسرة في الشهر؟ قنينة واحدة أو قنينة ونصف، وهو ما يعني أداء 80 درهما أو 120 درهما في الشهر كفارق إضافي، لكن كم تؤدي الأسر اليوم من فارق إضافي جراء ارتفاع أسعار جميع المنتجات؟ بدون مبالغة سيكون فارقا بآلاف الدراهم.
لقد بقي الحديث عن دعم البوطا ونوع من الدقيق والسكر، كنوع من “الجزرة” لعلها تخفف وجع الضربات المتتالية التي يتلقاها المواطنون أينما ولو ظهورهم ولا تسعفهم جيوبهم.
لقد تم التلاعب بالمواطنين، وتم تجريدهم من آلية الحماية الحقيقية لقدراتهم الشرائية دون أن تقدم للفئات الفقيرة منهم أي حماية، ومع ذلك يخرج السياسيون بين الفينة والأخرى عصى تحرير جميع الأسعار. وكلمة تحرير هي الأخرى كلمة مضللة سيكولوجيا.
اجتهد السياسيون كي “يضع” المواطنون أنفسهم “مكان” الحكومات ويتفهموها، دون أن تسعى الحكومات ولا السياسيين إلى وضع أنفسهم مكان المواطنين ليدركوا معاناتهم.
اليوم في التقدير ليس هناك مطلب أهم لدى المواطنين من إعادة نظام المقاصة إلى ما كان عليه قبل 2012، وإذا كان هناك من مطلب سياسي مواطن له بعد اجتماعي فهو “إفساد” نظام المقاصة من جديد، نعم “إفساد” الذي يستمد معناه السياسي من كلمة “إصلاح” التي خربت القدرة الشرائية للمواطنين.
نعم، سيقول الذين يتألمون لِظَهر الحكومة كلاما كثيرا، ولا نجادل أبدا في كونه منطقي ومعقول، من وجهة نظر الحكومات والمدافعين عنها، لكن من وجهة نظر المواطنين، فتلك الخطابات ليست أكثر من خطابات مضللة، وكان بإمكان الشعب أن يتضامن مع الحكومة لو أنها أعلنت الحرب على الفساد، وحمت المال العام، واشتغلت المؤسسات وخاصة مجلس المنافسة، بفعالية وجدية، وفرضت الشفافية في سوق المحروقات، وانخرطت الإدارات في التقشف على غرار دول متقدمة، ومنع الاغتناء من السياسة، وقدم الدعم المباشر للأسر الفقيرة، وباشرت الحكومة إجراءات داعمة على غرار ما قامت به الدول العظمى التي تحترم مواطنيها، وليست الدول التي تكتفي بالتنصت على أنينهم، … باختصار لو أظهرت ما تستحق به ومعه التضامن.
اليوم يكتشف المغاربة كم تعرت ظهورهم للهيب الأسعار تنهال عليها وقد تحررت سياطها من كل القيود. واليوم يحق لهم أن يقولوا كفى! ويرفعوا شعار “أعيدوا لنا صندوق المقاصة كاملا غير منقوص