ما أغبى الذكاء الاصطناعي في مواقع التواصل!
د. فيصل القاسم
ليس هناك أدنى شك أن الذكاء الاصطناعي قطع أشواطاً مذهلة في كل المجالات، وخاصة في مواقع التواصل الاجتماعي التي باتت تستهوي مليارات البشر في كل أنحاء العالم دون استثناء، ولو كانت مواقع التواصل تريد أن تضع رؤساء تحرير ومحررين ومراقبين ورقباء على ما ينشره مليارات الناس في تلك المواقع لضبط النشر ومنع التجاوزات لاحتاج أصحاب المواقع ملايين الأشخاص للقيام بتلك المهمة المستحيلة، لكن الذكاء الاصطناعي وعالم الخورازميات وفّر على المواقع مليارات الدولارات وجعل مواقع التواصل في متناول البشرية جمعاء، وفي الوقت نفسه جعل البشرية كلها تخضع للرقيب الاصطناعي الذي يراقب كل كلمة تنشرها في مليارات الحسابات الرقمية، ويتخذ الاجراءات المناسبة بحقها. ليس لدينا أي مشكلة مع هذا الفتح الالكتروني غير المسبوق في التاريخ، فلولاه أصلاً لما كانت وسائل التواصل ممكنة مطلقاً. لكن المشكلة التي يواجهها رواد مواقع التواصل، وخاصة في العالم العربي أن الذكاء الاصطناعي تحول إلى ديكتاتور وطاغية بغيض غشيم وأحمق وظالم إلى أبعد الحدود، ولا يختلف أحياناً عن رؤساء التحرير في الديكتاتوريات البائدة التي تحتقر حرية التعبير وتعاقب الناس على أخطاء غير مقصودة أو أنها في كثير من الأحيان لا تفهم المقصود وتعاقب بطريقة رقمية خوارزمية غبية جداً ومضحكة خاصة في البلدان التي لا تتحدث اللغات الأجنبية غير الإنكليزية واللاتينية الأخرى.
سأتحدث اليوم عن تجربة شخصية، وعن تجارب كثيرين أعرفهم كفروا بالذكاء الاصطناعي وخوارزميات مواقع التواصل التي أصبحت سيفاً مسلطاً على رقابهم، وبات ملايين البشر يفكرون ألف مرة قبل كتابة منشور بسيط خشية أن يتعرضوا للعقوبة وأحياناً فقدان حساباتهم بسبب كلمة فهمها الذكاء الاصطناعي خطأً أو لأن البرمجيات الخوارزمية باتت تعاقب بطريقة عشوائية لمجرد ذكر اسم شخص أو جهة أو منظمة أو قضية يعتبرها الذكاء الاصطناعي خطاً أحمر أو ممنوع ذكرها على الأثير الالكتروني في مواقع التواصل. وكي لا نتحدث بشكل ضبابي عام، تعالوا نذكر بعض الأمثلة الغبية الكوميدية والهفوات التي يقترفها الرقيب الاصطناعي في مواقع التواصل مع رواد المواقع العرب.
ليس لدينا شك أبداً مثلاً أن هتلر من أحقر القادة وأقذرهم في التاريخ، ولا يمكن لعاقل أن يشكك بجرائمه البشعة، ولا يمكن أن يمتدحه سوى الشاذين أخلاقياً وعقلياً، لكن لو حاولت مثلاً أن تنشر صورة لهتلر في بعض مواقع التواصل وعلقت عليها بطريقة سلبية جداً، ستجد الموقع إما أن يعاقبك بحظر الصفحة لأسبوع أو لشهر وأحياناً قد يرسل لك رسالة تهديد نهائية بإغلاق حسابك فيما لو نشرت صورة هتلر مرة أخرى. يا عزيزي يا ذكاء اصطناعي يا غبي: هل يعقل أن تحظر الحساب أو الصفحة أو تمنعه من النشر لمجرد أن شخصاً نشر صورة هتلر ومسح الأرض بالنازية؟ هل يجوز ذلك أيها الأهبل؟ المشكلة في هذا الذكاء الغبي أنه مبرمج على معاقبة الكاتب على مجرد نشر صورة هتلر أو حتى ذكر اسمه.
لا بأس أن يعاقبك الذكاء الاصطناعي المزعوم على التطبيل والتزمير أو مدح شخصيات بشعة كهتلر وغيره، لكن المشكلة إن ذلك «الذكاء» بين قوسين يعاقبك بشكل عشوائي لمجرد أنك نشرت صورة هتلر أو ذكرت اسمه. وهل الحديث عن التاريخ وشخصياته أياً كانت، جريمة لا تغتفر يا ذكاء اصطناعي؟
تصوروا أنني تعرضت لعقوبات بالحظر أو أحياناً لحجب الحسابات عن المتابعين لسنة كاملة لمجرد أن الأدمن محرر الصفحة نشر مادة تهاجم شخصية إرهابية في العالم العربي. ما المشكلة في مهاجمة شخصية إرهابية أو نشر صورتها؟ نحن هنا لا نمتدح ولا نروج للشخصية المذكورة، بل نمسح الأرض بها، فلماذا تعاقبوننا بحجة الترويج لتلك الشخصية؟ ما ذنبنا إذا كان الحمار الاصطناعي «بتاعكم» لا يفهم؟
لماذا تضيّقون الخناق على صفحات ملايين البشر وتعاقبون أصحابها بالمنع من النشر أو تحجيم انتشار الصفحات لمجرد أن أصحابها نشروا صورة أو ذكروا كلمة لا تروق لذكاء خوارزمياتكم الغبية؟
تصوروا أن هذه المرة الثالثة تتعرض صفحاتي للتضيق والعقاب لمجرد أن المحرر نشر مادة تهاجم حركة سياسية أو شخصية تعتبرها مواقع التواصل غير مرغوب فيها أو إرهابية. يا جماعة الخير، نحن هنا نهاجم تلك الحركة أو تلك الشخصية ولا ندافع عنها ولا نروج لها، وهذا من المفترض أن يوائم توجهاتكم، فلماذا تعاقبوننا لسنة كاملة لمجرد أننا جئنا على ذكر تلك الحركة أو زعيمها؟ أليس هذا غباء مستحكماً وظلماً غير مقبول مطلقاً؟ طبعاً من حق مواقع التواصل أن تضع ضوابطها وخطوطها الحمراء كأي وسيلة إعلامية، لكن على الأقل يجب أن يكون الذكاء الاصطناعي الذي تستخدمه للرقابة على النشر ذكياً بما فيه الكفاية كي يميز بين الترويج والهجوم.
وستضحكون أكثر على غباء الذكاء الاصطناعي عندما يعاقبك على استخدام كلمات ذات معان مختلفة، فمثلاً لو استخدمت كلمة «جنسية» في المقالات الفورية التابعة لأحد مواقع التواصل الاجتماعي، فإن الموقع يمنع المادة من النشر ظناً منه أنك تروج لحالات جنسية، مع العلم أنك تكون تتحدث عن جنسية معينة وليس عن الجنس. ولو ذكرت كلمة مخدرات بشكل سلبي أيضاً ستجد أن الذكاء الغبي في مواقع التواصل سيعاقبك ظناً منه أنك تروج للمخدرات.
أيها التيس، أنا هنا أحذر من المخدرات، لكن الغبي يعاقبك لمجرد أنك فقط ذكرت الكلمة الممنوعة في خوارزميات الموقع. حاول أن تذكر كلمة «عنف» في مقال فوري مثلاً، ستجد أن الغباء الاصطناعي سيمنعك من النشر فوراً لأن كلمة عنف في قاموس الغباء الاصطناعي ممنوعة.
طيب أنا هنا لا أدعو إلى العنف بل أطالب بالتوقف عن ممارسة العنف لا بل أدين العنف، فلماذا تعاقبني على مجرد استخدام كلمة «عنف»؟
وذات يوم تواصلنا مع أحد المسؤولين في أحد مواقع التواصل لنحتج على العقوبة القاسية لإحدى الصفحات، فقال لنا: إن العقوبة لها علاقة بالإرهاب ومن الصعب إزالتها، فقلنا له يا عزيزي: هل قرأت المادة أو اطلعت على محتواها؟، فقال: لا، لكن فيها ذكر للإرهاب، قلنا له: هذا صحيح، لكن المادة تهاجم الإرهاب والإرهابيين وتمسح الأرض بهم، فلماذا تعاقبونها؟
المادة تساير خط الموقع وتشد على يديه في مكافحة الإرهاب والإرهابيين، فهل يعقل أن تعاقبوا الصفحة لسنة كاملة وتضعوا عليها إشارة حمراء لمجرد أن ذكاءكم الاصطناعي غبي؟
وما المشكلة أيضاً إذا كنت صحافياً وتشتغل في مجال الإعلام، ما المشكلة فيما لو نشرت خبراً في صفحتك عن تصريحات لشخصية يعتبرها الموقع إرهابية أو خطيرة؟ وهل هذه جريمة أن تنشر أخباراً تتداولها كل وكالات الأنباء والصحف؟
لماذا تعاقبون الصحافيين الأفراد على نشر الأخبار؟ المضحك أن موقعاً ما أو جريدة أو قناة تنشر خبراً فلا تعاقبها مواقع التواصل عليه، لكن بمجرد أن ينشره شخص بنفس التفاصيل يحصل على عقوبة. يا للسخافة والظلم والديكتاتورية الحقيرة. للأمانة صرنا نفكر ألف مرة قبل أن ننشر مادة أو نكتب منشوراً خشية أن يفهمها الذكاء الاصطناعي وخوارزمياته الظالمة خطأً أو تعتبرها مواقع التواصل مرفوضة؟ ما الفرق بينكم وبين الأنظمة الاستبدادية التي تضع قوائم بأسماء الأشخاص والقضايا المحرمة في وسائل إعلامها؟ لماذا تتشدقون بحرية التعبير وحقوق الإنسان، ثم تنتهكون حقوق رواد مواقع التواصل لأتفه الأسباب؟ يوماً بعد يوم سيهجر ملايين البشر مواقعكم التي أصبحت أسوأ ديكتاتوريات في التاريخ.