آخر لحظات « لندن»!
عز الدين سعيد الأصبحى
سمعت آخر لحظات البث للإذاعة البريطانية باللغة العربية، والتي أغلقت أبوابها ظهر الجمعة 27 يناير الساعة الواحدة ظهرا، بتوقيت جرينتش،
بعد 85 عاما من البث الإذاعي الذى وصل صوته إلى كل بيت، وشكل جزءا من وجدان ثلاثة أجيال على الأقل، فى مختلف الوطن العربى والعالم، هاهى الإذاعة الأشهر تغلق أبوابها فى ظهيرة يوم شتوى قارس !.
صادف أن سمعت أميمة الشاذلى وهى تقرأ آخر موجز للأنباء، وقالت هذا آخر إيجاز إخبارى لـ«بى بى سى عربى» وحضر للحظة صمت له وقع (السِنينَ الخَوالِيا )، وَأَيّامَ لا نَخشى عَلى اللَهوِ ناهِيا، كما قال قيس بن الملوح ذات لحظة وجد.
سيغيب الآن عنا الصوت الذى لم يفارق ذاكرتنا منذ الطفولة (هنا لندن)، وحضر السؤال الملح، هل ما جرى ويجرى عموما هو تحول جذرى على مستوى السياسة كلها؟ أم أنه مجرد عجز مالى ومجاراة لتطورات الإعلام الرقمي؟
هل تغرب آخر خيوط شمس الإمبراطورية البريطانية التى يلفها غيم جليد قاس؟
تلك أسئلة مشروعة فى عالم متغير سريع الإيقاع، ستحتاج إلى جلسة أخرى ليس فيها هذا الشجن الآن، لكن سنفتقد ذاك الجزء الجميل من الذاكرة، ومعها صوت دقات جرس ساعة بيج بن الشهيرة، والأصوات الإذاعية المميزة.
نعم كثيرا ما وجهنا نقدا للسياسات الخارجية، ولفتنا الشكوك ولكن صوت مذيعى القسم العربى بهيئة الإذاعة البريطانية، هم جزء أساسى فى ذاكرة أجيال من هذه الأمة، بحضورهم البهى يبددون قسوة الشتاء وبرودة السياسة بدفء الحضور الفكرى والأداء المميز.
من ينسى تلك الرنة الجميلة وهى تعلن بدء الاخبار يعقبها صوت رخيم (هنا لندن!).
الآن تغلق الإذاعة الأشهر باللغة العربية أبوابها من قلب عاصمة بلاد شكسبير، لتترك حتما هذا الفراغ المتسع لذكريات لا تحصى من كل البلدان.
ويفتح إقفال الإذاعة البريطانية أبوابها بابا آخر للسؤال عن مستقبل الإعلام ودوره؟!.
من يتحكم بصنع الرأى العام، وكيف يصنع الإعلام الجديد من وسائل التواصل الاجتماعى الذائقة العامة للناس؟
كيف يوجه الإعلام الجديد الرأى العام، ويصنع مزاجا متغيرا؟
فيما مضى كان المتصدر للإعلام سواء المكتوب أو المسموع صحفيا يفترض به أن يكون ذا ثقافة رفيعة، بدأت تخفت حتى جاء هذا الفيضان الكاسح للعالم الافتراضى المنفلت لنجد الآن الجهات الدولية والإقليمية تصدر لنا من تسميهم المؤثرين المجتمعيين.
يحضر محرض على منصة إلكترونية لقاءات رفيعة يفترض بها أن تبحث عن رؤية لمأزق دولى وكل سلاحه أنه مسموع من مليون متابع افتراضي! .
تراجع مستوى الشباب وصار يكره الكتاب، ولا يُحسن القراءة ووقع ضحية تعليم ضحل .
وصورة التراجع نجدها حولنا أينما ولينا وجوهنا، فثمة تأكيد على تعزيز التفاهة والتسطيح.
الأسبوع المنصرم ومرورا بمطارات دولية مختلفة، رأيت ذاك الغياب، لكل أنواع الكتب والمكتبات والتى كانت جزءا من أى مطار، الآن ما عاد لذلك الحيز من وجود أمام زحمة أخرى لمجلدات الشيكولاتة ولوازم الهاتف النقال.
وإن أسعدك الحظ مثلى ذات صباح فستجد على زاوية صغيرة فى المطار الدولى بقايا مكتبة، وبائع كتب محبطا، يذكرك شكله بالوراقين القدامى من نظرة عميقة خلف نظارة سميكة يرقب قدومك بفرح بسبب إهمال الناس زاويته الذين لم يعودوا يأتون إليها.
وفى الطائرة اختفى توزيع الصحف والمجلات على الركاب بحجة أن التقدم الحديث يعنى تعميم عدم القراءة!!. وتلك معادلة مفجعة ! .
نعم إيقاع العصر يفرض حتما أدواته الحديثة، ومنها منصات الإعلام الإلكتروني، ولكن ذلك لا يعنى أن يفرض قيم عدم تشجيع القراءة واحترام الكِتاب، مهما يكن شكل إخراجه ورقيا أو إلكترونيا، ولا يعنى إنهاء المضمون الإعلامى الراقى محتوى وطريقة.
ولا يعنى أبدا القبول بتعزيز التفاهة فى كل منصة تسيطر على الذوق العام، وذلك حتى نحمى آدميتنا قبل أى شىء آخر.
فعملية التحديث التى نرنو لها فى بلادنا لا يمكن أن تنجح فى تعزيز التفاهة، ولا يمكن لنا أن نقف على قدمين رخوتين إذا أردنا أن نصمد فى وجه رياح التغيير.