الأزمة المغربية الفرنسية من وجهة نظري
الطيب الشارف
يعد المغرب من المستعمرات الفرنسية الأربعة عشر في إفريقيا منذ مطلع القرن العشرين، إذ ظلت تبسط سيطرتها على خيرات المغرب حتى بعد الاستقلال، متحكمة في التوجهات الاقتصادية والسياسية للمملكة، مستغلة قضية الوحدة الترابية وتداعياتها في دهاليز أروقة الأمم المتحدة ومجلس الأمن، من خلال ورقة الفيتو التي تشهرها فرنسا في وجه كل محاولة للنيل من سيادة المغرب، خاصة وأن المغرب سبق سحب هذا الملف من منظمة الوحدة الإفريقية عهد الراحل الحسن الثاني (الاتحاد الإفريقي حاليا)، مما ضيق مجال المناورة على المغرب، واستمر في مجاراة الوضع بأي تكلفة.
وبعد قرار عودة المغرب إلى الاتحاد الإفريقي سنة 2017 ضمن موقعه الطبيعي، سهل عليه عقد مجموعة من اتفاقيات الشراكة مع الدول الإفريقية انطلاقا من رابح/ رابح، وطلب انضمامه إلى سوق دول غرب إفريقيا (سيداو)، وهو الوضع الذي ساعده على قلب موازين القوى لصالحه، فكيف تم ذلك؟ وما هي الدينامية التي نهجتها الديبلوماسية المغربية في تليين أغلب دول العالم، ودول إفريقيا بالخصوص؟.
منذ 2007 قدم المغرب مبادرة الحكم الذاتي خلال الموائد المستديرة التي كانت تقام تحت إشراف المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة، باعتبارها مبادرة واقعية وحل سياسي لقيت استحسانا من قبل المنتظم الدولي، في حين ظل الطرف الآخر بتوجيه من الجزائر متشبثا إلى حدود اليوم بخيار تقرير المصير أو الحرب، وهو ما يعني أن الجزائر لا ترغب في طي هذا الملف إلا بشروطها ورغباتها في التوسع.
لقد شكلت عودة المغرب إلى الاتحاد الإفريقي منذ 2017 فرصة سانحة للتعريف من جديد بقضيته والترويج لمبادرة الحكم الذاتي، ساعده في ذلك توغله الاقتصادي في إفريقيا من خلال الشراكات المبرمة مع الدول الراغبة في تطوير نشاطها الاقتصادي، خاصة بعد انتشار فيروس كوفيد 19، وتداعيات الحرب الروسية/ الأوكرانية، وما خلفته من أزمات غذائية وطاقية، إذ تراجعت ولانت عدة مواقف سياسية بعدما كانت ضد مصالح المغرب، فأصبحت المملكة من الدول القلائل التي لها خطط ناجحة لمواجهة كوفيد 19 في إفريقيا، فتبرع على العديد من الدول بجرعات التلقيح والوسائل الضرورية لمجابهة أخطار الفيروس، إلى جانب مادة الفوسفاط الحيوية والضرورية لتأمين الغذاء في إفريقيا، بالإضافة إلى الوفاء بالتزاماته بخصوص الشركات في مجالات مختلفة، وهي الدينامية التي سرعت بفتح أزيد من قنصلية بالأقاليم الجنوبية/ العيون والداخلة تحديدا، وهو ما يعني صراحة اعترافا رسميا بمغربية الصحراء، على غرار الشراكة المبرمة مع الاتحاد الأوروبي بما فيها الأقاليم الجنوبية، لتتلوها اعترافات دولية أخرى وازنة على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية في شخص رئيسيها السابق والحالي، ثم ألمانيا وإسبانيا وبلجيكا وهولاندا وغيرها من دول المعمور، باستثناء فرنسا التي ظل موقفها غامضا وضبابيا، لأنها لا ترغب في إزعاج الجزائر، وما توفره من استثمارات اقتصادية وطاقية، خاصة بعد حدر استيراد الغاز من روسيا من قبل أمريكا، إلى جانب تراجع المد الفرنسي في إفريقيا، من خلال انسلاخ مجموعة من الدول الإفريقية عن التبعية لفرنسا، في مقدمتها بوركينافاسو ومالي والنيجر…، وتجاوز الرقم المالي لفرنسا من قبل المغرب في إفريقيا، كلها عوامل جعلت موقع المغرب متقدما وواعدا كدولة صاعدة مؤهلة أن تكون قوة إقليمية وجهوية، باعتباره فاعلا قاريا مؤهلا لمفاوضة الاقتصادات الكبرى الأمريكية والروسية والصينية، خاصة وأن هذه الاقتصادات جعلت من إفريقيا مسرحا لرسم الاستراتيجيات الجيوسياسية مستقبلا، لما تزخر به من خيرات طبيعية، مع ضعف في الحكامة ومنسوب الديموقراطية.
وأمام تصاعد برصة المغرب السياسية والاقتصادية والدينية بفضل حنكة وفعالية الديبلوماسية المغربية، وما راكمته من إنجازات ونقط قوة قلبت كل الموازين، الشيء الذي لم يرق فرنسا بسبب تراجع نفوذها، فبدت تراقب الوضع بعين المتربص والحاقد، خاصة وأن المغرب بدا ينظر إلى العالم في تعامله بمنظار وحدته الترابية، وربط استثمارات الشركات بالمواقف الإيجابية لدولها من قضية الصحراء المغربية، لدى كلما تلكأت فرنسا في موقفها، كلما ازدادت الهوة عمقا يوما بعد يوم، وهو ما جعل الزيارة الرسمية لماكرون تتأجل باستمرار.
وأمام الوضع الضيق الذي وضعت فرنسا نفسها فيه، وحالة الهذيان التي أصبحت تتسم بها سياستها، لم تجد بدا من إثارة بعض المناورات اليائسة، كمشكل التأشيرات، أو الخرجة الغير محسوبة من خلال البرلمان الأوروبي مؤخرا، في محاولة لفرملة المد المغربي، وجعله موازيا للواقع المتردي الجزائري، هذا الوضع هو الذي مكن فرنسا لسنوات من نهب خيرات الشعوب ودفعها للهجرات السرية بعد انسداد آفاق التنمية والكرامة، رغم ما تزخر به هذه الدول من موارد مالية ضخمة، فعوض أن تستثمر في التنمية، تصرف على تمويل الإرهاب والنعرات الانفصالية، في وقت تتكثل الدول الأوروبية لمواجهة كل تحرر وانعتاق من قبل هذه الدول وشعوبها، وبذلك فإن الجزائر تعد حليفا جديدا لفرنسا ضد مصالح المغرب، الذي يبدو أنه أصبح يعرف جيدا أين توجد مصلحته المستقبلية اقتصاديا وسياسيا ولغويا، وبدت فرنسا تهضم هذا الواقع الجديد، وتستشعر الخطر من الرهانات المغربية السيادية، فليس عبثا أن تمارس الضغط والابتزاز، عن طريق اللوبي البرلماني الموالي لسياسة ماكرون، بإثارة ورقة حقوق الإنسان وحرية التعبير، في محاولة لتشويه صورة المغرب في المحافل الدولية عبثا، وهي محاولة يائسة تزيد من عزلة فرنسا بالقارة الإفريقية، وليست لها أي أثر على اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي.