سمعنا كثيرا و نحن صغار من أجدادنا وجداتنا حكايات عن اليهود و حضورهم الديني بالمغرب .. وكانت حكايات ترسخ قيم التعايش و التسامح و التلاقح بين الأديان السماوية الثلاثة : “اليهودية والمسيحية والاسلام” وسيأتي الوقت لنخصص مقالات علمية لهذه الحكايات إذا طال العمر و كانت فيه بقية .
و كبرنا و تعلمنا في مدارسنا نفس القيم .. وولجنا الجامعة المغربية بكل عز وافتخار و تعلمنا بالحجة و المنهج أن المغرب مهد الحضارات و أرض التعايش المشترك بين جميع الخصوصيات والهويات .. وهو ما أكد عليه تصدير دستور مملكتنا في سنة 2011 .. الذي نص صراحة أن الرافد العبري من روافد الهوية المغربية .
لم يكن هذا التنصيص الدستوري اعتباطيا أو عبورا شكليا .. بل هو واقع و نتاج تاريخ مشترك .. واقع يفرضه وجود أزيد من مليون ونصف يهودي مغربي بإسرائيل من جهة ، و من جهة ثاينة وجود أزيد من 5000 يهودي مغربي من الجالية المغربية عبر ربوع العالم .. بالإضافة إلى ما يزخر به المغرب من تواجد كبير لمعالم التدين اليهودي بأغلب مدن المملكة .. و هو واقع أيضا نلمسه في عدد الأولياء و الأضرحة و المواسم اليهودية التي تنظم كل سنة بالمغرب، بالصويرة و مناطق سوس العالم و وازان وغيرها من المدن المغربية العريقة التي تجسد روابط المحبة و بين اليهود المغاربة و أولياءهم و بالمسلمين أنفسهم داخل المغرب .. و سنخصص فقرة لمعالم التعايش الديني بين اليهود المغاربة و المسلمين .. و فقرة ثانية لمراسيم الإحتفالات الدينية لليهود بالمغرب.
الفقرة الأولى : أولياء المغرب و معالم التعايش الديني .
إن كان الشرق أرض الرسول و الأنبياء .. فالمغرب أرض الصالحين و الأولياء .. أرض التعايش الديني و التلاقح الثقافي و الإندماج الاجتماعي.. و يؤكد هذه الروابط الدينية العلاقة التاريخية بين اليهود والمسلمين في المغرب، فالتدين اليهودي بالمغرب له أولياءه و أعلامه و معالمه و رجاله الصالحين برموزهم ، و تأثير معالمه على التدين في الحياة عموما ..
فعلى الرغم من كون اليهودية ذات طابع تديني مخالف للإسلام في شكله الدعوي، إلا أنها عرفت استثناءا فريدا بالمغرب تجسد في دعوة قبائل مغربية لإعتناق اليهودية ،كما أشار إلى ذلك اليهودي المغربي روبير أصراف في مؤلفه “محمد الخامس واليهود المغاربة”، إذ كان لليهود العبرانيين الأوائل مبادرات في دعوة القبائل البربرية إلى الديانة اليهودية، حسب ما شمله الموروث الشفوي في الحكايات المتداولة لدى الذاكرة الجماعية لتجمعات يهودية بمنطقة سوس ودرعة بالجنوب، رغم اندثار أثرها بعد الفتح الإسلامي، و إن كانت هذه الروايات تحتاج مزيد من التمحيص و التدقيق العلمي لها من الناحية الأنثروبولوجيا و الإبستمولوجيا أيضا.
و رغم ذلك تبقى الهوية اليهودية بالمغرب حاضرة بتدينها، و من سيماتها الأبرز تشددها في الإلتزام الحرفي بالدين اليهودي ومعتقداته ، و غلوها أحيانا في التطبيق الحرفي لإصحاحات التوراة و قواعد التلمود المغربي(راجع في ذلك خطاب المغفور له الحسن الثاني للجالية اليهودية المغربية بأمريكا سنة 1997) ، و راجع في هذا أيضا دراسات حاييم زعفراني التي جاوزت السبعين دراسة تناولت مختلف معالم التدين اليهودي و أبرزت الطابع الديني بأبعاد الهوية اليهودية بالمغرب .
أما دراسات بن عامي إسشار، فركزت على ظاهرة القداسة في تعداده لأولياء وقديسي اليهود بالمغرب .. إذ عدد حوالي 652 وليا بالمغرب .. ضمنهم 126 وليا مشتركا بين المسلمين واليهود.. و15 وليا مسلما مقدس عند اليهود المغاربة .. و90 وليا يهوديا له رمزية دينية عظيمة عند المسلمين .. وهناك تنازع و اختلاف حول 36 وليا بين اليهود و المسلمين بالمغرب كل ينسبهم إليه، وهذا ما يجسد التعايش الديني عبر التاريخ بالمغرب.
لفقرة الثانية : مراسيم الإحتفالات الدينية اليهودية بالمغرب.
يعرف المغرب مراسيم دينية إسلامية كبيرة كعيدي الفطر و الأضحى و إحياء ذكرى المولد النبوي الشريف و ذكرى منقذ الأمة محمد الخامس و ذكرى محرر البلاد الحسن الثاني .. و كذا ذكرى فاتح محرم ورمضان والأيام العشر و عاشوراء .. التي نتقاسمها مع معتنقي الديانة اليهودية .. فيضرك المسلمين كاليهود أيضا يوم عاشوراء .. لأنه اليوم الذي نجى فيه الله موسى نبي إسرائيل من بطش فرعون وجنده ..
و إلى جانب الواقع المشترك في تعظيم و تبجيل يوم عاشوراء هناك دراسات مفصلة عن مراسيم ما يزيد عن خمسين هيلولة تجدها في كتاب “احتفال ديني يهودي مغربي ” للباحث صامويل (يوسف بنعيم) أصدره سنة 1980م، يؤكد فيه أن هذه الخيارات مرتبطة بمواسم الأولياء اليهود بالمغرب التي تبرز حالة السعي اليهودي بالمغرب و ارتباطهم بمعتقداتهم ..
وتظهر معالم احتفالات و مراسيم التقديس وتجديد العهد و الولاء لمقدساتهم و ترانيمهم سنويا داخل الحضن المغربي و تحت الرعاية السامية لإمارة المؤمنين في أبهى حلة للتعايش الديني بين اليهودي و المسيحي و المسلم منذ القدم إلى يومنا هذا ، حيث يحضى اليهود في احتفالاتهم بكل الدعم الشعبي و الأمني و غيره عبر مختلف ربوع المملكة المغربية.. نخص بالذكر منها بعض المدن كصفرو و وزان و الصويرة و بعض المناطق بسوس و مناطق أخرى بالأطلسين الكبير و الصغير ..
إن هذه الدراسات تؤكد للعالم برمته و الإنسانية جمعاء أن المغرب لم يكن يوما بلد للقمع و العنف .. بل كان و لا يزال بلد السلام و الأمن و العيش المشترك بين جميع الأديان و الأعراق .. و أرض التلاقح و التبادل الثقافي ومهد لتنقل الأفكار العلمية بين دول الحوض المتوسطي و إفريقيا وأوروبا نحو أمريكا وآسيا .
و الحمد لله الذي بحمده يبلغ ذو القصد تمام قصده .
مقال بقلم: د. عبد النبي عيدودي