الكعب العالي سرّ أنوثتي.
في طفولتي، حين كنتُ أسمع وقع حذاءٍ بكعبٍ عال على درج عمارتنا، كنتُ أتخيّل شكل المرأة التي تصعد أو تنزل الدرج: سيدة أنيقة بشعر مرتبٍ وملابس باهظة الثمن، وبيدها لفافة سجائر طويلة.
لم يكن لدينا وقتها جهاز تلفزيون، ما يعني أن صورة المرأة التي ترتدي حذاءً بكعب عال لم تكن في ذاكرتي من فيلمٍ ما، كانت غالبا من النساء اللواتي كنّ صديقات لعائلتي ويزرن بيتنا الذي كان مقصداً لكثيرين وكثيرات من الوسط الثقافي في سبعينيات القرن الماضي؛ كانت الأحذية النسائية بكعوبها العالية موضة ذلك الزمن، ترتديها النساء والبنات من كل الأعمار والطبقات الاجتماعية.
وقع الكعوب على إسفلت الشارع أو بلاط الأرصفة في الليل كان بمثابة إعلانٍ عن جنس العابرين وعددهم: هذه المرأة وحيدة لأنها مسرعة، وقع خطواتها بلا فواصل؛ ثمّة أخرى تمشي بهدوء، كما لو أنها تتمايل يرافقها رجلٌ ما يدلّ عليه الصوت الخافت لدعسة حذائه على الإسفلت.
هناك مجموعة من الرجال والنساء تعبر الآن، تختلط أصوات قهقهاتهم مع وقع أحذيتهم، وقتها لم تكن الأحذية الرياضية تستخدم إلا في أثناء التمرين، ومعظمها كان مصنوعاً من القماش الأبيض أو الأسود والكاوتشوك، لا أتذكّر أن أحداً كان يتجرّأ على ارتدائها في الأوقات العادية، سوف يُتّهم حتماً، لو فعل، بقلة الأناقة وازدراء المكان الذي يقصده.
على جدران المعابد المصرية القديمة، يمكن للمهتم أن يرى صورة كاهن يرتدي حذاء ذا كعب عال، ما يعني أن البشر القدماء عرفوها منذ آلاف السنين، واللافت أنها كانت مخصّصة للرجال أكثر قبل النساء، ففي الحضارة الفارسية، كان يرتديها رامي السهم كي تثبت قدمه في سرج الحصان أو في التراب، حيث يصوّب نحو عدوه. كما كان يرتديها الجزّارون كي لا تتلوّث أقدامهم بدم الذبائح.
علوّ كعب الحذاء لدى القدماء كان يدلّ على موقع الرجل ومهنته، لم تكن هناك مهن للنساء.
لهذا كانت الثريات منهن ترتدين النّعال المسطحة الملفوفة على القدم، بينما الفقيرات، ككل الفقراء رجالاً ونساء وأطفالاً، كن يمشين حافيات. ويقال إن أول امرأةٍ في التاريخ ارتدت الكعب العالي هي كاترين زوجة الملك الفرنسي هنري الثاني في حفل زفافها، وذلك لتمنح قامتها القصيرة جدا بعض الطول.
ما جعل نساء الطبقة الارستقراطية في أوروبا يقلّدنها، فانتشر الكعب العالي بين النساء، وانتقل بين القارّات والطبقات الاجتماعية واتخذ أشكالاً وأطوالاً عديدة، لكنها كلها تضفي مزيداً من الأنوثة والغوى على جسد المرأة وقوامها.
في سورية، بدأ انحسار مشهد الكعب العالي في الشارع مع تنامي ظاهرة القبيسيات في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، حيث كانت نساء التنظيم الذي انتشر بشكل مهول بين طبقات المجتمع يرتدين نموذجاً محدّداً من الحذاء يجعل مشيتهن مع المانطو الواسع والطويل تبدو كمشية البطّة.
بلا أي ملمحٍ للغوى والأنوثة التي يمنحها الكعب العالي. ومع الوقت، بدأ الكعب العالي في شوارع سورية يتراجع لصالح الكعوب المسطحة التي تتناسب مع تغير إيقاع الحياة، لكن المناسبات والسهرات ظلّت تشهد تنافساً نسائياً حادّاً في ارتفاع الكعوب.
قبل عدة سنوات، بدأت موضة الأحذية الرياضية بالانتشار في كل العالم، كل أنواع وألوان وموديلات وخامات الأحذية الرياضية يرتديها الجميع هذه الأيام، من كل الأجناس والأعمار والطبقات، حتى دور الأزياء العالمية الشهيرة التي كانت تزدري هذه الأحذية.
باتت تصنعها وتضع عليها علامتها وتبيعها بأسعارٍ مرتفعة جداً وتنسّقها مع الأزياء الرسمية، صار الحذاء الرياضي سوقاً مفتوحة للتنافس بين مصنعي الأحذية، يقال مثلاً إن أرباح شركة سكيتشرز الأميركية التي تأسّست عام 1992 تتجاوز أرباح علامة غوتشي الإيطالية الفاخرة والباهظة جداً, والتي تأسست عام 1921،
ذلك أن “سكيتشرز” تصنع أحذية بالغة الراحة، ومخصّصة لكل أنواع الحركة وتتناسب مع كل أشكال الجسد البشري، ما جعلها أكثر العلامات الرياضية انتشاراً في العالم.
أجلس الآن في مقهى في منتصف باريس، عاصمة الموضة، وأراقب أقدام آلاف العابرين يمشون أمامي بدون أي وقعٍ لأقدامهم على الأرض، كلهم مسرعون، يرتدون أحذية رياضية، ملوّنة ومريحة، غالية الثمن أو رخيصة،
لكنها تتناسب مع المتغيّرات الاجتماعية للعصر الحالي، العصر العابر للجندر، الذي تكاد الفروق فيه بين الجسدين، الأنثوي والذكوري، تختفي تماماً لصالح أجساد متشابهة لا تصلح للعبة الغواية التي تلعبها أجساد أنثوية تتمايل مع وقع الكعب العالي على إسفلت الشارع، كما لو أن هذا الكعب من أسرار الأنوثة.