تعد الأحكام الغيابية إشكالية قانونية معقدة تثير جدلا واسعا في الأنظمة القضائية المقارنة، خاصة في سياق قضايا العقود والالتزامات. تتمحور هذه الأحكام حول الفصل في النزاعات بغياب أحد الأطراف، وغالبا ما يكون المدعى عليه. وهو ما يطرح تساؤلات جوهرية حول مدى تحقيقها لمبدأ العدالة الناجزة، وضمان حقوق الأطراف المتنازعة.
الحكم الغيابي، في جوهره، هو قرار قضائي يصدر في غياب أحد الأطراف، ويستند إصداره إلى مبررات مختلفة. ضمنها تحقيق سرعة الفصل في النزاعات، وتجنب تعطيل التقاضي بسبب مماطلة المدعى عليه.
ومع ذلك، يواجه هذا النوع من الأحكام انتقادات حادة. خاصة فيما يتعلق بتأثيرها المحتمل على حق الدفاع، واحتمالية صدور أحكام غير عادلة نتيجة لغياب أحد الأطراف عن الإجراءات.
الإجراءات القانونية المتعلقة بالأحكام الغيابية تتضمن جوانب دقيقة وحساسة، بدءا من الإعلان القانوني للمدعى عليه، الذي يشترط صحة الإعلان لضمان علمه بالدعوى المقامة ضده.
الإعلان غير الصحيح قد يؤدي إلى بطلان الحكم الغيابي، مما يستدعي إعادة الإجراءات. وتتوفر للمحكوم عليه غيابيا طرق للطعن في الحكم. مثل الاعتراض والاستئناف، وذلك ضمن شروط ومواعيد محددة قانونا.
أما تنفيذ الحكم الغيابي، فيخضع لإجراءات وضوابط تهدف إلى حماية حقوق المحكوم عليه في هذه المرحلة.
وتكشف مقارنة بسيطة للأنظمة القضائية المختلفة عن تباين في التعامل مع الأحكام الغيابية. ففي حين تركز بعض الأنظمة على سرعة الفصل في النزاعات. تشدد أخرى على ضمان حقوق الدفاع، حتى في حالة الغياب.
هذا التباين يظهر بشكل خاص في قضايا العقود والالتزامات، حيث تتطلب طبيعة هذه القضايا تحقيق توازن دقيق بين حماية الحقوق التعاقدية، وضمان عدالة الإجراءات.
الأحكام الغيابية في هذا السياق يمكن أن تؤثر بشكل كبير على العلاقات التعاقدية، وتخلق حالة من عدم اليقين القانوني، خاصة إذا شاب الإجراءات عيوب جوهرية.
تقييم فاعلية الأحكام الغيابية يتطلب نظرة شاملة تأخذ في الاعتبار كل من المزايا والعيوب. ففي حين تساهم هذه الأحكام في تسريع وتيرة التقاضي، إلا أنها قد تأتي على حساب العدالة وحقوق الدفاع. لذلك، يظل تطوير التشريعات المتعلقة بالأحكام الغيابية ضرورة ملحة. وذلك بهدف تحقيق التوازن بين سرعة الفصل في النزاعات، وضمان حقوق الأطراف المتنازعة. خاصة في قضايا العقود والالتزامات التي تتسم بتعقيداتها وخصوصياتها.
وهكذا يشدد النظام القضائي الفرنسي والألماني على ضمان حقوق الدفاع قبل إصدار الحكم الغيابي. فيما تتعامل أنظمة أخرى بمرونة أكبر لتحقيق سرعة البت في القضايا.
ويعتبر إعلان المدعى عليه الإجراء الأهم. حيث يلزم القانون بإعلانه بشكل صحيح. سواء عن طريق البريد أو بوسائل أخرى، لضمان علمه بالدعوى. ولا يصدر القاضي الحكم إلا بعد استيفاء إجراءات الإعلان. وإذا غاب المدعى عليه دون أن يتقدم بالطعن خلال المواعيد المحددة، يعد الحكم غيابيا. وفي هاته الحالة يحق للمحكوم عليه الغيابي الاعتراض، أو تقديم طلب إعادة النظر، أو الطعن بالاستئناف، خلال مدة محددة. غالبا ما تكون 15 يوما من إبلاغه بالحكم. وينفذ الحكم وفقا للإجراءات القانونية، مع ضمان حقوق المدعى عليه في حالة الاعتراض أو الطعن.
وعلى الرغم مما تحمله الأحكام الغيابية من إيجابيات ذات صلة بتسريع إجراءات الفصل، وتخفيف العبئ على القضاء، وتجنب المماطلة. إلا انها تحمل سلبيات ذات صلة باحتمال صدور أحكام غير منصفة، وغياب ضمانات كافية لحق الدفاع، وتهديد استقرار العلاقات القانونية. ف“العدالة لا يمكن بناؤها على سرعة القرار فحسب. بل على ضمان حقوق الجميع”، وفق ما أكده “توماس جيفرسون”. كما أن “الحق لا يُقاس بسرعة البت، وإنما بمقدار ما يحقق من عدالة”، وفق ما صرح به “غاندي”.
وتمثل الأحكام الغيابية أداة مهمة لتحقيق سرعة العدالة، لكنها يجب أن تمارس بحذر، مع ضمان حقوق الدفاع وإجراءات الإعلان الصحي. وذلك لتفادي الثغرات التي قد تؤدي إلى ظلم أو انتهاك لحقوق الأطراف. إن توازنا دقيقًا بين سرعة الفصل وحماية الحقوق هو الأساس لضمان نظام قضائي عادل وفعال.